شهد التاريخ الإسلامي في منتصف القرن الأول الهجري أزمة كبرى عُرفت بالفتنة الكبرى، مثّلت أخطر تحدٍّ واجه وحدة المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. بدأت ملامحها تتشكل في أواخر خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، حين تكاثرت الشكاوى ضده نتيجة سياسات إدارية ومالية اعتبرها بعض الناس انحرافًا عن نهج الشيخين أبي بكر وعمر. كان من أبرز أسباب الاحتقان: تولية أقربائه من بني أمية على الأمصار، وتزايد النفوذ الأموي، إضافة إلى تراكم الثروة في المدينة وازدياد الفوارق الاجتماعية بين المسلمين. كما لعبت عوامل فكرية وثقافية دورًا في إذكاء الغضب، منها دخول أعداد كبيرة من الموالي حديثي العهد بالإسلام الذين لم يندمجوا كليًا في المنظومة القبلية العربية، فضلًا عن تحريض بعض الخصوم السياسيين.
مع تزايد السخط، تحركت وفود من الكوفة والبصرة ومصر إلى المدينة مطالبة بعزل بعض الولاة، وكان عثمان يحاول التوفيق بين المطالب المختلفة عبر الإصلاح وإرسال رسائل الوعد، لكنه لم ينجح في إرضاء الثائرين. تصاعدت الأزمة حتى حاصر المتمردون بيت الخليفة، ورغم تدخل كبار الصحابة كعلي بن أبي طالب وطلحة والزبير للإصلاح، انتهى الأمر باغتيال عثمان رضي الله عنه سنة 35 هـ، وهو يقرأ القرآن. مثّل هذا الحدث زلزالًا هائلًا في نفوس المسلمين، إذ كان أول خليفة يُقتل ظلمًا، ففتحت دماؤه باب الانقسام العميق.
بعد مقتل عثمان، اجتمع الناس على مبايعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخلافة. لكن علي واجه معضلة كبيرة: فالمسؤولية الشرعية تقتضي إقامة القصاص من قتلة عثمان، غير أن القتلة أنفسهم كانوا قد اندسوا في صفوف أنصاره، ولم تكن الظروف مهيأة لتحقيق العدالة دون إثارة حرب أهلية. لذا آثر التريث حتى يستتب الأمن. غير أن هذا الموقف أثار اعتراض فريق آخر من المسلمين، على رأسهم أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير، الذين اعتبروا التأخير في القصاص تفريطًا بحق عثمان. فخرجوا إلى البصرة داعين إلى محاسبة القتلة، وهناك وقعت معركة الجمل سنة 36 هـ، التي سميت كذلك لأن أم المؤمنين كانت في المعركة على جملها. انتهت المواجهة بمقتل طلحة والزبير وانسحاب عائشة رضي الله عنهم جميعًا، وبقيت الجراح غائرة في النفوس.
بعد ذلك، ظهر خصم آخر لعلي، وهو معاوية بن أبي سفيان والي الشام وقريب عثمان، الذي رفض مبايعته قبل الاقتصاص من القتلة. تبادل الطرفان الرسائل والمفاوضات دون جدوى، فتقابلا عسكريًا في معركة صفين سنة 37 هـ، إحدى أعظم المعارك في التاريخ الإسلامي. استمرت القتال أيامًا عديدة وسالت فيها دماء غزيرة، حتى رفع جيش الشام المصاحف على أسنة الرماح داعيًا إلى التحكيم بكتاب الله. قبل علي ذلك على مضض لتجنب استمرار القتال، فاختير أبو موسى الأشعري من طرفه وعمرو بن العاص من طرف معاوية. غير أن جلسات التحكيم لم تحسم النزاع، بل زادت الموقف اضطرابًا، إذ استغل عمرو دهاءه السياسي لترجيح كفة معاوية، بينما بدا أبو موسى ضعيف الحجة. انتهى التحكيم دون نتيجة، وفقد علي كثيرًا من أنصاره.
من رحم هذه الخلافات خرجت طائفة جديدة عُرفت بالخوارج، وهم الذين رفضوا التحكيم معتبرينه خيانة للدين، ورفعوا شعارهم الشهير: “لا حكم إلا لله”. اتسم فكرهم بالتشدد والصرامة، فكفّروا عليًا ومعاوية ومن قبل بالتحكيم، وراحوا يثيرون القلاقل ويقتلون كل من يخالفهم. خاض علي معارك عدة ضدهم، أبرزها النهروان، حيث انتصر عسكريًا لكنه فشل في استئصال فكرهم. بقي الخوارج مصدر تهديد خطير للوحدة الإسلامية.
استمر الصراع بين علي ومعاوية سنوات أخرى، لم يحسم فيها أي طرف المعركة لصالحه. وفي سنة 40 هـ تعرض علي لعملية اغتيال على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم أثناء صلاة الفجر في الكوفة، فاستشهد متأثرًا بجراحه. بوفاته فقد المسلمون آخر الخلفاء الراشدين الذي عاشوا في كنف النبي صلى الله عليه وسلم. بويع ابنه الحسن من بعده، لكنه آثر حقن دماء المسلمين، فتنازل عن الخلافة لمعاوية مقابل شروط تحفظ وحدة الأمة، فيما عُرف بعام الجماعة (41 هـ). بهذا الاتفاق استتب الأمر لمعاوية مؤسس الدولة الأموية، وبدأ عهد الملك العضوض.
غير أن آثار الفتنة الكبرى لم تندمل سريعًا، إذ تركت ندوبًا عميقة في جسد الأمة الإسلامية. فقد انقسم المسلمون سياسيًا بين مؤيد ومعارض، ونشأت بذور الفرق الكبرى التي ستتبلور لاحقًا كالتشيع والخوارج. كما كشفت الأحداث خطورة الصراع على السلطة إذا لم يُضبط بضوابط الشرع والشورى، وأظهرت أن غياب العدالة والشفافية في إدارة الحكم يفتح أبواب الفتن. ومع ذلك، تميز كبار الصحابة رغم خلافاتهم بالحرص على بقاء الإسلام نفسه، فظل الدين محفوظًا، وإن ضعفت وحدة الدولة.
إن الفتنة الكبرى ليست مجرد حوادث عسكرية وسياسية، بل هي محطة فارقة تبرز كيف تتفاعل العوامل الدينية والاجتماعية والقبلية في صناعة التاريخ. فهي تعلّم أن الأمة قد تتعرض لانقسامات دامية إذا غابت الثقة بين قادتها وشعوبها، وأن وحدة الصف تحتاج دائمًا إلى عدالة راسخة وإدارة رشيدة. كما أنها تذكّر بأن الصراعات مهما اشتدت لا يجوز أن تطمس حقيقة أن الصحابة كانوا بشرًا يجتهدون ويخطئون ويصيبون، وأن ما وقع بينهم لا يجوز أن يكون سببًا للطعن في عدالتهم أو مكانتهم عند الله، فهم أصحاب رسول الله وأفضل جيل عرفته البشرية.
للاطلاع على كافة التفاصيل يمكنكم مشاهدة الحلقة على قناتنا باليوتيوب مع ضيفنا زين العابدين كامل
لا تعليق