لم يعد الابتزاز الإلكتروني حادثًا فرديًا عابرًا؛ بل صار، في تجارب الممارسين الميدانيين، من أعتى الجرائم بعد القتل المباشر. ضحاياه فتيات وفتيان، رجال ونساء، تنهار حياتهم تحت ضغط التهديد بالفضح أو الاستنزاف المالي أو السيطرة النفسية. وتزداد الكارثة حدّة حين يُحاصر الضحية بصمت الأسرة وخوف «العار»، بدل أن تُقدَّم لها يد العون والحماية. هنا تتقدم مبادرات أهلية كـ«قاوِم» لمؤسسها محمد اليماني لتملأ فراغًا تركته المنظومات التربوية والإعلامية والثقافية، فتدعم الضحية، وتضغط على المبتز، وتستعيد شيئًا من توازن العدالة الاجتماعية.
ما هو الابتزاز الإلكتروني؟
الابتزاز الإلكتروني هو توظيف أدوات الاتصال الرقمي (رسائل، صور، فيديوهات، حسابات وهمية) لإجبار الضحية على تنفيذ مطالب غير مشروعة: أموال، محتوى حميم، خِدَمات، أو حتى إذلال علني. وقد يغدو الابتزاز حلقةً متناسلة: تهديد أول، استجابة مرعوبة، ثم تصعيد ومراكمة مطالب. وتُظهر خبرات الميدان أن الضحايا ليسوا فتيات فحسب؛ فابتزاز الرجال ظاهرة صاعدة، تُصيب أساتذة وموظفين وشخصيات عامة، وتدفع بعضهم إلى حافة الانهيار.
كيف وُلدت «قاوِم»؟
انبثقت «قاوِم» من خبرة شخصية في التوعية الرقمية، ثم تحولت إلى عمل منظّم بعد حادثة انتحار مؤلمة لفتاةٍ كانت تُهدَّد. عندها تبدّل السؤال من «من أخطأ؟» إلى «كيف نمنع الموت التالي؟». جُمِع متطوعون ومتطوعات بثقافة واضحة: التركيز على إنقاذ الإنسان، ونقل «الكشاف» من الضحية إلى الجاني، وبناء نظام عملي يُقلّل الارتجال ويزيد الانضباط.
الفلسفة المؤسِّسة: من الضحية إلى «المحاربة»
جوهر التجربة هو تفكيك العار، وتحويل الضعف إلى قدرة. كثير من الحالات التي نالت دعمًا عادت لاحقًا لتدعم غيرها؛ فالتي عرفت الألم تصير أقدر على مواساة الموجوع وإرشاده. هذا التحويل يخلق شبكة أمان اجتماعية صغيرة، لكنها فاعلة، تقف بين الضحية والمبتز، وتخفف ابتزازًا مزدوجًا: ابتزاز المجرم وابتزاز المجتمع.
منهج العمل: إنساني وقانوني معًا
تبدأ المعالجة بالتحقق: طلب دلائل أصلية على التهديد، فحص حسابات المبتز، والتأكد من عدم فبركة المحادثات. ثم تُصاغ «مذكّرة مخاطر» للمبتز: تعريفٌ قانوني بالجريمة وعقوباتها، وخياران واضحان: حلّ سريع بحسن نية (مسح المحتوى، تعهّد موثق بعدم التكرار)، أو المضي قانونيًا.
وفي الموازاة، يُدعَم الضحية نفسيًا؛ تُعاد صياغة المشهد: «أنت لست المذنب/ة، الجريمة هنا هي التهديد». تُبنى خطّة تواصل آمنة، وتُدار دائرة العائلة بحكمةٍ تُطفئ الذعر، كي لا يتحول الخوف إلى قرارات متهورة.
ملامح القضايا: أنماط متكررة و«عصابات»
تتكرر الحيل: حسابات جذابة تستدرج دردشة فيديو خاطفة تُسجَّل ثم تُوظَّف للابتزاز؛ منتحلو صفة «داعم» في البثوث المباشرة يجمعون المقاطع ويعيدون بيعها عبر قنوات مغلقة؛ شبكات تستهدف مراهقين عبر ألعاب وتطبيقات، ثم تنتقل إلى التهديد المالي والجنسي. وفي خلفية المشهد، قنوات تِلغرام وسوق «نوادز» تتاجر بمقاطع مُهرَّبة، وأحيانًا تُسخّر ضحايا لتحويلهنّ/هم إلى «محطات إنتاج» تحت القسر.
ثقافة تُمرِّر الجريمة: من «التنمّر» إلى «تطبيع الانتهاك»
الإعلام العشوائي والمحتوى الهابط يمرران قاموسًا يُهَوِّن الانتهاك ويُعيد تعريف «القيمة» على أنها فضيحة و«ترند». تتسع دائرة التنمّر على الراقصات في الأفراح، والطالبات على الشاطئ، والنساء في المقاطع المتداولة، حتى يغدو النشر والتهكم فعلًا يوميًا بلا كوابح. حين تُصبح الإهانة مادة ترفيهٍ شعبية، يتشجّع المبتز ويخور دفاع الضحية.
الأسرة أول خط دفاع
في حالات كثيرة، لا يبحث الأبوان إلا عن «الصورة أمام الناس»، لا عن نجدة الابنة/الابن. المطلوب قلب المعادلة: حماية الكرامة قبل السمعة، واعتبار الفضيحة الحقيقية هي جريمة التهديد لا خطأً وقع وانتهى. الحضور العاطفي المتوازن، والحوار الصريح، والمتابعة الرقمية الرشيدة، كلها دروعٌ مبكرة تُغني عن معاركٍ قاسية لاحقًا. والأهم: كسر قطيعة «الغربة داخل البيت»؛ فالمراهق الذي لا يجد صدرًا يتكئ عليه سيجد آلاف الأذرع المضللة مفتوحة على الشاشة.
الابتزاز لا يفرّق بين جنس وعُمر
تُسجّل المبادرات حالاتٍ لفتيان في الإعدادية يتعرضون للتهديد من حسابات تتظاهر بأنها فتيات صُغرى. كما تُسجَّل حالات لرجال ناضجين وقعوا في فخ محادثة خاطفة. الرسالة الجامعة: الخطأ ممكن، والستر واجب؛ والمعالجة السليمة تبدأ من الاعتراف بالضعف الإنساني، لا من جلد الذات، ثم اتخاذ مسارٍ مهنيّ منضبط.
الدين كحائط ستر لا سوط فضح
تستدعي «قاوِم» روح الشريعة في مقصدها: الإصلاح والستر وردع الجريمة، لا التشفي والإذلال. القاعدة الذهبية: لا تكن أنتَ أداة الفضيحة. إن سقط إنسانٌ ثم تاب فباب الرحمة أوسع من باب الوصم، والعدالة التي نبتغيها هي عدالةُ مجتمعٍ يتماسك، لا يتلذذ بسقوط أفراده.
تحديات على الطريق
تواجه المبادرات حملات تشويه، وانتحالًا للاسم، وافتقارًا للتمويل، وخصومًا محترفين يستغلون جهل الجمهور بقواعد الأمن الرقمي. كما يطل تحدي «المسرحة»؛ إذ قد يطالب الجمهور بعروضٍ علنية تُشبع الفضول، بينما تقتضي أخلاقيات الستر كتمان التفاصيل وحماية الخصوصية. وبين مطرقة الضغط الشعبي وسندان مقتضيات القانون، يلزم ميزانٌ صلب: حفظ الحقوق بلا استعراض.
ما الذي ينبغي فعله الآن؟
- إسناد الضحايا: عدم اللوم، تأمين الهاتف والحسابات، جمع الأدلة، والرجوع فورًا للجهات المختصة ومبادرات موثوقة.
- تجفيف السوق: الضغط القانوني على قنوات التوزيع، الإبلاغ عن مجموعات البيع غير المشروع، وتعزيز قدرات مباحث الإنترنت.
- تحصين التربية: إدماج محو الأمية الرقمية في المدارس والجامعات، وتدريب الأهل على الرقابة الذكية والحوار.
- مسؤولية المنصات والإعلام: سياسات صارمة ضد محتوى الإذلال، ومساحات توعوية ثابتة، بدل جداول ممتلئة بالترفيه الرخيص.
- شبكات متطوعين محترفة: انتقاء صارم، تدريب قانوني ونفسي، وبروتوكولات موحدة لإدارة الحالات.
- لغة دينية وإنسانية راشدة: خطاب يرفع قيمة الستر، ويضع العقوبة في موضعها: أداة ردع وإصلاح، لا انتقامًا جماعيًا.
خاتمة: من الخوف إلى الشجاعة الاجتماعية
الابتزاز الإلكتروني مرآةٌ لمجتمعٍ يتأرجح بين الخوف والفضول واللا مبالاة. وكسر الحلقة يبدأ حين نواجه الحقيقة: الضحية ليست مذنبة لأنها خافت؛ والمبتز ليس «ذكيًا» بل مجرمًا. وبينهما تقف مبادراتٌ مثل «قاوِم» لتقول: يمكن تحويل الدمعة إلى موقف، والعار إلى ستر، والفوضى إلى نظام. لكن هذا كله لن يكتمل بلا أسرةٍ تُصغي، ومدرسةٍ تُعلِّم، وإعلامٍ يُهذِّب، ومنصةٍ تُحاسِب، وقانونٍ يُنفَّذ.
حينئذٍ فقط نستطيع أن ننتقل من سؤال «كيف حدث هذا؟» إلى يقينٍ عملي: «لن نسمح أن يحدث مرةً أخرى».
للاطلاع على كافة التفاصيل يمكنكم مشاهدة الحلقة على قناتنا باليوتيوب مع ضيفنا محمد اليماني
لا تعليق