من التشخيص إلى التحدي قصة عمر مهران مع التصلب المتعدد والسرطان

من التشخيص إلى التحدي قصة عمر مهران مع التصلب المتعدد والسرطان


أنا عُمر، رجلٌ شاء الله أن يبتليني بمرضين شديدين؛ أولهما التصلب المتعدد، وثانيهما السرطان. قد يظن من يسمع قصتي أن حياتي انتهت، أو أن الأمل انطفأ في داخلي، غير أنني تعلمت أنّ الابتلاء قد يكون باباً للمعرفة، وأن الألم قد يُصاغ منه معنى جديد للحياة.

الصدمة الأولى

بدأت قصتي في عام 2015 حين ظهرت عليّ أعراض متفرقة: كهرباء في المخ، تشنجات متكررة، التهابات في الأوعية الدماغية. كنت أتنقل بين التشخيصات دون أن أصل إلى نتيجة قاطعة. وفي عام 2020 جاءت الصدمة الكبرى: ازدواج في الرؤية، طنين في الأذن، فقدان القدرة على النطق والبلع والسمع، وشلل شبه كامل في أطرافي. بدوت كأنني ميت إكلينيكياً، والعائلة من حولي في حالة ذهول.

الأطباء لم يحسموا أمرهم، إلى أن قالت طبيبة شابة جملة غيرت مجرى حياتي: “أظنه التصلب المتعدد”. بدأت رحلة فحوصات جديدة، وتأكد التشخيص. حينها قيل لي إنني قد أقضي بقية حياتي على كرسي متحرك.

معنى التصلب المتعدد

اكتشفت أن التصلب المتعدد مرض مناعي مزمن يهاجم الغلاف العازل للأعصاب (الميالين)، فيعطل الإشارات بين المخ وسائر الجسد. تختلف الأعراض بين مريض وآخر؛ قد تضعف الرؤية، أو يضطرب النطق، أو تتأثر الحركة. لكن الأمر الأخطر ليس في المرض نفسه، بل في طريقة تبليغ الخبر للمريض.

هناك طبيب يشرح الأمر قائلاً: “سنعيش مع المرض كما نعيش مع الضغط أو السكري”، فيزرع الأمل. وهناك طبيب آخر يقول: “لن تتحرك ثانية”، فيغلق الأبواب كلها. أما أنا فقد سمعت النوع الثاني، فكانت صدمة قاسية.

كلمة صنعت التحول

في أشد لحظات ضعفي، نظر إليّ والدي رحمه الله وقال: “لا أريد أن أنكسر بسببك.”
كانت هذه الكلمات أشبه بشرارة أضاءت داخلي. خرجت من المستشفى على كرسي متحرك، لكني خرجت بقرار جديد: أن أقاوم وأحيا.

ابتلاء آخر: السرطان

لم تنته القصة عند التصلب المتعدد. بعد سنوات، بدأت أشعر بألم في صدري وبكحة يرافقها دم. أجريت الفحوصات، فجاء التشخيص صاعقاً: سرطان في أواخر المرحلة الثالثة وبداية الرابعة. لم يكن الخبر وحده مؤلماً، بل طريقة بعض الأطباء في إلقائه: “اشبعوا منه.” عبارة كهذه كانت كفيلة بقتل الأمل قبل أن يفتك المرض بالجسد.

بدأت رحلتي مع العلاج الكيماوي، وواجهت الموت أكثر من مرة. توقفت ضربات قلبي وعاد التنفس بقدرة الله. ثلاث مرات خرجت من بين يدي الموت، وكنت أرى في ذلك رسالة خفية من ربي.

الكيماوي… نار في العروق

الكيماوي ليس دواءً يسيراً، بل نار تسري في العروق. كل جرعة كانت معركة: غثيان لا ينقطع، فقدان للشهية، أرق دائم. كنت أحسب الأيام بالساعات والثواني حتى الجرعة التالية. في تلك الفترات انعزلت عن العالم، ليس كرهاً للناس، بل هروباً من أن أكون عبئاً عليهم. كثيرون أساؤوا فهمي، لكن العزلة كانت وسيلتي الوحيدة لأتحمل.

من الألم إلى الفعل

وسط هذه المعاناة، قررت أن أستثمر ألمي في خدمة الآخرين. أسست مع إخوتي وأصدقائي مؤسسة “جبر القلوب”. اخترنا الاسم لأنه يختصر رسالتنا: جبر الخواطر عبادة. بدأنا بزيارات للأطفال في المستشفيات، نحمل البالونات والهدايا الصغيرة. ثم اتسعت أعمالنا: تجهيز عرائس يتيمات، توصيل مياه، إطعام أسر محتاجة، ودعم مباشر لمرضى السرطان والأمراض المناعية.

كنت أرى أن المرضى لا يحتاجون إلى الدواء فقط، بل إلى كلمة، ابتسامة، لمسة رحيمة. كنت أقول دائماً: “الكلمة دواء قد يوازي أقوى العلاجات.”

وجوه لن أنساها

من بين كل من قابلت، بقيت صورتان محفورتين في قلبي.
سما، فتاة في السادسة عشرة من عمرها، كانت تبتسم وهي على جهاز التنفس الصناعي. أمسكت يدي وضغطت عليها لتقول: “سنشفى.” ابتسامتها علمتني الرضا أكثر من أي كتاب.
وياسين، طفلٌ كُسر قلبه بسبب تأخر العلاج. سمعت بأذني كلمات قاسية ألقيت على والده: “لا علاج له.” ورأيت دموع الأبوان، وعجز الأطباء. كان مشهداً لن يمحى من ذاكرتي.

دروس تعلمتها

خرجت من هذه الرحلة بمبادئ صارت نبراساً لي ولكل من يسمعني:

  • ما أصابني لم يكن ليخطئني، وما أخطأني لم يكن ليصيبني.

  • رضا الناس غاية لا تدرك، ورضا الله غاية لا تترك.

  • حسن الظن بالله يغير الأقدار في لمح البصر.

  • الكلمة قد تحيي أو تميت.

تعلمت أن الابتلاء ليس عقوبة، بل فرصة. وأن السعادة ليست في غياب الألم، بل في حسن التعامل معه.

رسالتي للأطباء والأصدقاء

أيها الطبيب: أنت أول جسر بين المريض والحياة. كن صريحاً، لكن اجعل الرحمة جزءاً من كلماتك.
وأنت أيها الصديق: لا تنظر إلى المريض بعين الشفقة، فهي تقتله. عامله كإنسان كامل، يحتاج إلى دعمك لا إلى رثائك.

جبر الخواطر… أعظم عبادة

رأيت بأم عيني كيف يمكن للعبة صغيرة أن تعيد طفلاً إلى كرسي العلاج راضياً، وكيف يمكن لكلمة أن تمنع أباً من الانهيار. جبر الخواطر ليس رفاهية، بل عبادة يُثيب الله عليها مضاعفة. الابتسامة صدقة، فلماذا نبخل بها؟

خاتمة

أنا عُمر، محارب للتصلب المتعدد والسرطان. لم أكتب قصتي لتثير الشفقة، بل لتكون رسالة أمل. أقول لكل مبتلى: عش حياتك بسعادة، فهي مرة واحدة فقط. استحضر أن الله يحبك، لذلك اختارك لهذا الابتلاء. أحسن الظن بربك، فإن حسن الظن يغير الأقدار.

وأقول لنفسي ولكم: إذا أخذ الله منك ما لم تتوقع ضياعه، فسوف يعطيك ما لم تتوقع يوماً أن تملكه. وما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. اجعل رضا الله غايتك، وستجد السلام في قلبك مهما اشتد الألم.

للاطلاع على كافة التفاصيل يمكنكم مشاهدة الحلقة على قناتنا باليوتيوب مع ضيفنا عمر مهران

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *