من الحيرة إلى الفهم: حكاية اختلاف عصبيّ، وفشلٍ مُثمر، ودروس في الطريق مع أسامة جويلي

من الحيرة إلى الفهم: حكاية اختلاف عصبيّ، وفشلٍ مُثمر، ودروس في الطريق مع أسامة جويلي


بدأت حكايتي بسؤال بسيط بدا مستحيل الإجابة: لماذا أتألّم؟ كنتُ طالب هندسة وصل إلى السنة الثالثة ثم تعثّر بشدّة. أعرف الإجابات في قاعة الامتحان، لكن يدي لا تتحرّك، وذهني “يُفرَّغ” فجأة. أخرج بعد عشرين دقيقة من امتحان مادة كاملة وأنا عاجز عن الجلوس، ثم أعود مثقلاً بإحساس الذنب أمام أسرتي ونظرات الحيرة: “ربنا معاه”. لم أكن مهملاً ولا عابثاً؛ كنتُ مجتهداً، قارئاً نهِماً، محبّاً للعلم، لكن شيئاً خفيّاً كان يفصلني عن الأداء.

بوادر الاختلاف: ليس مرضاً بل طريقة دماغ

لاحقاً عرفتُ اسم ما أعيشه: اضطراب نقص الانتباه/فرط النشاط (ADHD). لم يكن كما تصوّره الدراما: طفل لا يجلس على كرسي. هو اختلاف في تنظيم الطاقة والانتباه والانفعال. الدماغ إمّا “صفر” بلا تركيز، أو “مئة بالمئة” على شيء قد لا يكون الأهم. القدرة على الجلوس، المتابعة، حفظ الخطوات التسلسليّة… كلها تصبح تَحدّيات. المشكلة الحقيقية لا تنبع من الاختلاف ذاته، بل من المقارنة المستمرة و”المسطرة” التي تُقاس بها جميع العقول كأنّها قوالب متطابقة.

الجامعة: حين يخرج القطار عن القضبان

في الثانوي، كانت البيئة تضبط إيقاعي: أصدقاء يدرسون، مُدرّس يتابعني، تليفزيون محدود. في الجامعة تبدّل كل شيء: مواصلات طويلة، استقلال كامل، إنترنت وألعاب وأنمي وفضول علمي بلا سقف. دخلت الامتحان الأول في أولى هندسة وأنا “عارف”، لكنني لا أكتب. حملت موادّ للمرة الأولى، ثم ثانية. جرّبتُ أن أستأجر في الإسكندرية وأغلق كل مصادر التشتت: لا جدوى. في القاعة أنا الذي يشرح لزملائه، أنا الذي أناقش الأساتذة، ثم أفشل في ورقة الأسئلة. هذا التناقض سحقني.

المرآة القاسية: ذنبٌ متراكم

تكوّنت لديَّ عقدة ذنب: أنا السبب؛ أنا سيّئ؛ أنا أقلّ من أخي المتفوّق. لم تكن أسرتي قاسية، لكن “الحسرة” في العيون كانت كافية لتكسرني. صرتُ أشعر أنّ قيمتي صفر لأنني لا أحوّل معرفتي إلى درجات. هنا تولد الألم: ليس من داخلي، بل من صورتي في أعين الآخرين. سألت نفسي: هل عصيتُ الله؟ هل آذيتُ أحداً؟ لا. إذن من أين يأتي الوجع؟ من توقّعات الناس ومسطرتهم.

اللحظة الفارقة: اسمٌ يفسِّر السنين

صدفةٌ على الإنترنت فتحت الباب: حديث قصير عن “الفشل في العاديّات” جعلني أشعر أنّ أحدهم يترجم سنواتي بلغة مفهومة. غصتُ شهوراً في القراءة، ثم قرّرت السير في الطريق الصحيح: طبيب/ـة نفسية مرخّصة، علاقة علاجيّة شراكة لا “روشتة عاجلة”. جرّبتُ أطباء عدّة حتى وجدتُ من أرتاح إليه. تريّثتُ في الأدوية؛ تعلّمتُ العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، وفهمتُ أدواتي وحدودي.

اختلاف لا عِلّة

اكتشفتُ أن تسمية “اضطراب” ليست دقيقة دائماً. ما لديّ اختلاف عصبي: مثل الطول والقِصَر. الخطورة تنشأ حين نُصِرّ على مقارنات لا ترحم: “كُن مثل فلان”. كثيرٌ من الأذى النفسي ليس من الاختلاف نفسه، بل من الضغط الاجتماعي لسحق المختلف داخل القالب.

من الفشل الأكاديمي إلى طريق المهنة

بعد صراع الجامعة والجيش، دخلتُ سوق العمل من بابٍ غير متوقّع: التعلُّم بالممارسة. كنتُ أدرّب وأصنع محتوىً بصرياً وأبرمج، وجربت العمل الحرّ عبر منصات مثل Upwork: لا أقدّم “وعوداً” بل أنجز نموذجاً وأرسله؛ إن ناسب دفعوا، وإلا فلا. بنيتُ سيرة ذاتية من أعمال فعلية لا شهادات فقط. ثم اكتشفتُ قيمة نادرة لـ”سبع صنايع”: القدرة على فهم الصورة الكبيرة، جمع التصميم بالمونتاج بالبرمجة بالبراند… هذا “العرض العريض” نعمة حين يُدار جيداً.

الذكاء الاصطناعي: حليف تنفيذي لمخيّلة مشتعلة

أكبر عائق لدى من هم مثلي هو التنفيذ المتسلسل طويل النفس. هنا جاء الذكاء الاصطناعي ليملأ الفجوة: من بناء متجر وموقع ومحتوى في أيام إلى أتمتة خطوات كانت تبتلع أسابيع. الإبداع—ربط عناصر متباعدة لصناعة فكرة—موهبة شائعة بين ذوي الاختلاف العصبي. ومع أدوات اليوم، أصبح التنفيذ أقلّ رعباً، وأقرب إلى زرّ “تشغيل” لمن يملك الرؤية ويحتاج “أذرعاً” رقمية.

خلاصة هذه المرحلة: لستَ مُطالباً أن تكون آلة تنفيذ. إن امتلكت الخيال، وفهمت أدوات الذكاء الاصطناعي، يمكنك تحويل الفكرة إلى نموذج أولي بسرعة، ثم إلى مشروع بمساعدة فريق يُكمل ما ينقصك.

دوائرك الداخلية: الوعي والتأثير

علّمتني المعالجة إطاراً بسيطاً مُنقذاً: دائرة الوعي ودائرة التأثير. الأولى واسعة بطبعنا—نرى كل شيء ونشعر بكل شيء—لكن الثانية صغيرة في البداية. الألم يتفاقم حين نمضي عمرنا في ما نعيه لا ما نؤثر فيه. الحلّ: ابدأ من أصغر دائرة تأثير ممكنة—نفسك أولاً—واجعلها تكبر بالفعل المنتظم. اغسل الصحون في بيتك إن عجزت عن “إنقاذ العالم”. النية تُرتّب الفعل، والفعل الصغير اليوم يُغيّر غداً.

إدارة الذات: ما الذي ينفع حقاً؟

  • بيئة داعمة: صمّم محيطك ليعمل لصالحك (تقليل المشتّتات، تقسيم المهام، مؤقتات).
  • مواعيد التسليم: أصحاب ADHD يتجاوبون مع “الحد النهائي”. ضع مواعيد واقعية واضحة.
  • شراكات مُكمِّلة: ابحث عمّن يدير ويُنظّم؛ وأنت قد تُلهِم وتبتكر.
  • تعلّم بالعمل: ارتمِ في “الماء العميق” لكن بسلامة—مهام صغيرة مدفوعة، تتسع بالتدريج.
  • علاقة علاجية رصينة: اختر طبيباً مرخّصاً، وعلاجاً سلوكياً، وقرارات دوائية واعية.
  • معنى يتجاوز الدرجات والمال: القيمة ليست رقماً؛ هي أثرٌ تتركه في محيطك.

التعليم الذي نحتاجه

المستقبل القريب سيكسر نموذج “الخط الإنتاجي” في التعليم. سيعود لجوهره: معلّم يرى الفرد ويُفصّل طريقته على مقاسه، ويستعين بأدوات ذكية تُقلّل كلفة التنفيذ، وتفسح مساحة للخيال والبحث والتجريب. هذا مستقبل مُشرق لمن عانوا من “مسطرة واحدة للجميع”.

إيمانٌ يثبّت البوصلة

بين الألم والمعنى خيطٌ دقيق. وجدتُ في الإيمان سكينةً ومعياراً: النية، السعي، وعدم التعلّق بالنتيجة. أنت خليفة في محيطك، لا آلة درجات ولا ماكينة أموال. افعل ما تقدر عليه اليوم، ودَع الثمرة لوقتها. “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها”.

خاتمة: كيف أحوّل الاختلاف إلى قيمة؟

  1. أُسمّي ما أعانيه: اختلاف عصبيّ، لا عيباً ولا كسلاً.
  2. أبني على نقاط قوتي: الفضول، الربط، الخيال.
  3. أستعين بغيري وأدواتي: فريق يُنظّم، وذكاء اصطناعي يُنفّذ.
  4. أقيس بناظري لا بنظرات الناس: أثرٌ حقيقيّ ولو صغير.
  5. أواصل السعي: خطوة واقعية كل يوم، بمواعيد واضحة وبيئة مُهيّأة.

هذه ليست قصة “انتصار هوليودي” بل طريق طويل؛ يتعثّر، يتعلّم، ثم ينهض. إن كنت تشبهني، فاعلم: لا تحتاج أن تتغيّر لتصبح نسخة معيارية؛ تحتاج فقط أن تفهم نفسك، وتحيطها بما يُنبت قوتها، وتضعها في مكانها الصحيح. هناك يبدأ الشفاء… وهناك يبدأ الأثر.

للاطلاع على كافة التفاصيل يمكنكم مشاهدة الحلقة على قناتنا باليوتيوب مع ضيفنا أسامة جويلي

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *