ليست كل شركة ناشئة تولد من خطة عمل محكمة أو دراسة سوق مطوّلة. أحيانًا تكفي جملة عابرة على طاولة مقهى لتفتح بابًا لحلم كبير. هكذا بدأت قصة منتج برمجي عربي لإدارة العيادات؛ فكرةٌ تولّدت من احتياجٍ حقيقي، ونمت بالإصرار، وتحوّلت—بمرور الوقت—إلى حضور تجاري في عشرات الدول.
الشرارة الأولى: احتياج طبيب وتحدّي مبرمج
كان د. عبد الرحمن يبحث عن برنامج يدير عيادته رقميًا. الخيارات المحلية “مقبولة”، لكنها لا تساعده على التوسّع وفتح فروع جديدة. التفت إلى صديقه المبرمج مصطفى وسأله بنبرة شبه مازحة: أليس بوسعكم أن تبنوا أفضل مما هو متاح؟ أخذ مصطفى السؤال على محمل الجد. على امتداد نحو عامين بنى منتجًا من الصفر: يتجاوز قصور الحلول المحلية، ويتعلّم من أفضل الممارسات العالمية، ويخاطب احتياجات العيادة اليومية وتحديات النمو.
مروان: بائع بالفطرة إلى قلب التقنية
هنا يدخل مروان دغيم، صاحب تجربة طويلة في البيع وإدارة العلاقات، بلا خلفية طبية أو تقنية. أول تسجيل دخول له على النظام أشعل داخله ذكريات قديمة عن “وجع” الأنظمة اليدوية التي عايشها في تجارة عائلته. رأى في المنتج وعدًا حقيقيًا لإزالة تلك الآلام: تنظيم، توحيد بيانات، وإدارة محكمة عبر الهاتف. قرر أن يترك عمله التقليدي في “يونيفورم المدارس”—رغم عائده المجزي—ليدرس السوق ستة أشهر بجدية: منافسون، معارض، حضور رقمي، ودراسة دقيقة لنقاط الاختراق الممكنة.
مدرسة الرفض: كيف يتحوّل الصدّ إلى معرفة
ما إن نزل إلى الميدان حتى اصطدم بالواقع: استقبال يرفض إدخاله، أطباء مشغولون لا يمنحون خمس دقائق، ونظرات تشكّك فيما يقوله شاب يحمل حقيبته ويعد بإدارة عيادة كاملة من الهاتف. لكن الرفض المتكرر تحوّل إلى مادة تعليمية حيّة: عرضٌ مختصر إذا كانت العيادة مزدحمة، رسائل تركّز على “الألم” الحقيقي لكل طبيب (سيطرة مالية دقيقة، حجز إلكتروني بلا فاقد، إدارة موحّدة لفروع عدة)، وقاعدة ذهبية لا تُمسّ: لا تعدْ بما ليس موجودًا، لأن صفقة خاسرة واحدة تطيح بثقة تؤثر في أربع أو خمس صفقات لاحقة.
الصفقة المفصلية: وعد مدفوع واسترداد مشروط
المحطة الفارقة جاءت مع طبيب صاحب خمسة فروع. رفض فكرة “جرّب مجانًا”، وطلب ضمانًا معقولًا. عرض مروان صيغة معاكسة للسائد: ادفع الآن، وإن لم تتلمّس قيمة حقيقية فاسترداد كامل للرسوم. قُبل العرض، وتعهّد الفريق—وكانوا ثلاثة فقط—بتشغيل الفروع الخمسة خلال أسبوع. تحمّلوا مقاومة الفرق الداخلية في العيادات، قدّموا دعمًا لصيقًا، وركّزوا على إظهار “قيمة سريعة” ملموسة. نجحت التجربة، وتحوّلت إلى شهادة حيّة ورافعة تسويقية مؤثرة.
جوّال أولًا ورشاقة تطوير: ميزة تنافسية حاسمة
لم يبع الفريق “برنامج مواعيد”؛ بل تجربة إدارة كاملة من الجيب: إشعارات فورية، رؤية يومية للأداء، مقارنة زمنية تُعين على القرار. هذا المنظور “الجوال أولًا” جعل الرسالة مقنعة: الإدارة ليست حاسوبًا على مكتب، بل قرارات على مدار اليوم. تقنيًا، بنى مصطفى الكود من الصفر بنهج نظيف يسهل تعديله، ما جعل وتيرة التطوير سريعة وكلفته أقل من منافسين يعتمدون فرقًا خارجية. كل طلب من السوق يمكن تحويله—غالبًا—إلى ميزة خلال وقت قصير وبجودة مستقرة.
من قرية قرب المنصورة إلى الخليج وأفريقيا
أقوى قنوات النمو لم تكن الإعلان المدفوع، بل الإحالة. صفقة في قرية قريبة من المنصورة قادت—عبر شقيق الطبيب—إلى مركز كبير في السعودية، فإلى شبكات عيادات أخرى. ظلّت الإحالات تتكرر حتى باتت تمثل أكثر من 40% من العملاء. توسّع الحضور ليمسّ نحو 25 دولة: زخم واضح في السعودية (قرابة 90 مركزًا)، وحضور في العراق والأردن وليبيا وعُمان والبحرين والكويت، وأسواق أفريقية (كينيا، تنزانيا، الصومال، ليبيا، تونس، المغرب، جنوب أفريقيا، بوتسوانا)، وأوروبا وتركيا وأستراليا. في أوروبا لعب السعر دور “باب الدخول”، لكن المنتج ذاته هو من حافظ على الاستمرارية.
ثقافة بيع متواضعة وصلبة: “جلد تمساح” وأذن مصغية
ينتقي مروان البائعين على أساسين: قدرة عالية على تحمّل الرفض، وإنصات عميق يكشف الحاجة الحقيقية. ليست هناك “جملة سحرية” تُغلق كل الصفقات؛ ما يُغلق هو تطابقٌ بين ألم الطبيب ورسالة الحلّ. في بعض الفرق تصل نسب التحويل إلى أربعة أو خمسة من كل عشرة عروض—نتيجة فهمٍ أفضل للسياق لا براقة عرض أطول. ويؤكد مروان القاعدة التي كلفته خبرة: لا تعد بما لا تملك، فالثقة رأسمال البيع في سوق “مصدوم” من وعود تقنية لم تتحقق.
المال الذكي أم المال السريع؟ تجربة الاستثمار و“شارك تانك”
ظلت الشركة ممولة ذاتيًا (Bootstrapped)؛ مساهمات تشغيلية صغيرة من المؤسسين استكملت المطلوب لتوظيف أول فريق، ثم صار التدفق التشغيلي يمول النمو. خاض الفريق برامج مسرّعات، فتعرف إلى مشهد استثماري ملتبس: معايير تقييم متضاربة، مزج غير صحي بين عقلية المشاريع التقليدية ومنطق الشركات الناشئة، وشبكات علاقات تؤثر في القرار. دخلوا “شارك تانك” بوعي تسويقي: الهدف الرئيس التعريف والقبول، لا بيع حصة كبيرة مبكرًا. العروض وصلت إلى نسب تحكم مرتفعة، فاختاروا الرفض. ومع ذلك، منحتهم الحلقة دفعة تسويقية واتصالات بصناديق ومستثمرين إقليميين بشروط أفضل—مع تحذير واضح من صناديق جادّة: لا تُفرّط مبكرًا في 40–50% إن كنت تريد جولات صحية لاحقة ودافعية مؤسِّسين مرتفعة.
الشراكة بين الأصدقاء: متى تنجح؟
تنبّه الفريق إلى حساسية نسب الملكية بين الأصدقاء. اعتمدوا Vesting قائمًا على “الالتزام والمثابرة” أكثر من مؤشرات جزئية، واحتكموا إلى خبير مستقل عند اللزوم لضبط التوقعات. ويقدّم مروان قاعدة عائلية قديمة تصلح لروّاد الأعمال: شارِك من يمنحك “النصيب الأكبر” طواعية، ولو أخذتَ أنت “الأصغر”—فالمعيار هو معدن الشريك لا صرامة القسمة.
الفريق… قبل كل شيء
في قلب الحكاية فريق يرى نفسه “صاحب المكان”. يذكر مروان أمثلة لبائعات وبائعين تحوّلوا إلى قادة بفضل مثابرتهم وأخلاقياتهم. نجاح المنتج، في نظره، بدأ بفكرة وحاجة، لكنه استمر لأن هناك بشرًا “حالفين النجاح”: يتحملون الضغط، يتعلمون بسرعة، ويتواضعون أمام العميل والحقيقة.
من إدارة العيادات إلى منظومة صحية متصلة
ما تحقق في الأسنان والجلدية فتح الباب لخطوة أوسع: منتج قابل للتهيئة لتخصصات متعددة، ثم رؤية أبعد لمنظومة تربط المريض بالعيادة/المستشفى، شركة التأمين، المختبر، والمورّد—عبر تطبيق واحد وتكاملات “Plug-and-Play”. الهدف اقتصادي وإنساني معًا: تقليل الاحتكاك والكلفة والوقت، ورفع جودة القرار الطبي والإداري ببيانات حيّة وواجهات بسيطة.
خاتمة
قصة هذا المنتج ليست عن “فكرة لم يسبق إليها أحد”، بل عن ترجمة احتياج واضح إلى حلٍّ سريع التطور، وعن ثقافة بيع تحتفي بالصدق والثقة، وعن فريق يعتبر الرفض وقودًا للتعلّم لا ذريعةً للتراجع. من مقهى صغير بدأت الحكاية، وها هي اليوم تتحول إلى مشروع إقليمي يراهن على منظومة طبية عربية متصلة—إدارةً، وحجزًا، وبيانات، وتجربة مريض أفضل—تبدأ من الجيب، وتصب في صالح العيادة والمجتمع على حد سواء.
للاطلاع على كافة التفاصيل يمكنكم مشاهدة الحلقة على قناتنا باليوتيوب مع ضيفنا مروان دغيم
لا تعليق